«أقدارها» على ان تنزع رداء «الانكفاء» على الاقتصاد، وارتداء شيء من أزياء «الشياطين» في العقد الثاني من الألفية الثالثة. جاء إعدام الرهينتين اليابانيتين إيذاناً مفاجئاً باقتراب لحظة «الحقيقة» من طوكيو، العاصمة المتوارثة خلف جنة «مزعومة» لا يعكّر صفوها سوى «زيارات» موسمية لزلازل تربض في بنيتها الجيولوجيّة. شاءت «الدولة الاسلامية» أن تروّج لإرهابها العابر للقارات، في واحدة من أعرق الدول تكنولوجية في العالم. الطرفان يلتقيان حيث لا ينبغي ان يتماسا: اليابان الذاهبة، باقتدار، إلى اقتطاع حصتها من الساحة الدولية؛ «الدولة الإسلامية» المتعجّلة لإعادة تشكيل العالم انسجاماً مع مشاهد الإبادة الفردية والجماعية. أسقط في يد اليابان. اصطيدت على حين غرّة حتى قبل ان تلتقط أنفاسها. تبدو، اليوم، مجبرة على انعطافة قسرية من الحلم إلى الواقع بتجلياته القبيحة. على نحو مناقض، «ترتقي» الدولة الاسلامية، خطوة على الاقل، من واقع بالقوة إلى واقع بالفعل. من استراتيجيا كامنة في رؤية عدميّة، إلى الحلم المتمثل في جعل الارهاب «قانوناً» للحياة على الأرض. عند هذا المفترق، بالتحديد، يحصل الاصطدام بين الجانبين، ترددت أصداؤه سلباً في اليابان، وازدياداً في شهيّة القتل لدى الإرهاب المتربص خلف شعارات دينيّة ملتبسة. بدليل ما تناقلته، على هذا الصعيد، مواقع إعلامية عدة، من بينها: «وكالة رويترز»، والـ»بي.بي.سي» البريطانية، وسواهما، تفيد باستياء شديد اللهجة لدى الرأي العام في اليابان، من إقدام الرهينتين على السفر إلى سوريا وجرأتهما في إلقاء نفسيهما في التهلكة. لم تستسغ الأكثرية الساحقة من المواطنين هناك. أن تسفر مغامرة الرهينتين عن مغامرة غير محسوبة، كان من نتيجتها ان تخسر اليابان رهاناً لم تعلم به، في الاساس. لم يتقبل الجمهور الياباني العريض أن تُزجّ دولتهم، النائية بنفسها عن غيرها. في أتون قاتل من وراء ظهرها. لعلّ إحساساً جماعياً كهذا، هو تعبير: على الأرجح، عن أمرين اثنين: أولهما، أنه أياً كانت الأسباب التي تذرّع بها اليابانيان قبل قتلهما للذهاب إلى سوريا، فإنهما قد تعمدا، بشكل أو بآخر، أن يلقيا على كاهل الحكومة، حملاً ثقيلاً لا تقوى على احتماله. وقد ذهب مواطنون كثر إلى الاعتقاد، وفقاً للموقع الالكتروني المشهور «جابان توداي»، بأن الملامة في ما تعانيه الدولة، اليوم، تقع كاملة على الضحيّتين لأنهما اثبتا أنهما «مشاغبان» لم يحسنا التصرّف في هذه اللحظات الغامضة.
سبب ثالث
ومع ذلك، ثمة سبب ثالث أخطر وأدعى إلى القلق والاحساس بالخذلان والمهانة. صحيح أن جلداً يابانياً للذات بدا واضحاً، في الأسبوعين الماضيين، وطاغياً في آن، من خلال انقلاب مأساة الرهينتين، إحساساً عميقاً بالضيق والارتباك، على نحو لا مبرر له. غير أن أكثر ما آلمها وجرح كبرياءها، أنها بدت مضطرة، وهي تعالج هذه الأزمة المستحكمة، بقلّة حيلة، والأرجح بخبرة متواضعة، ألاّ تنسحب من الفلك الأميركي، لحظة واحدة. تدرك طوكيو جيداً، أنها أعجز من أن تفكّر، برهة في مفاوضة الخاطفين انطلاقاً من الفدية التي كانوا أدرجوها، بندأ أساسياً، لإطلاق الرهينتين، وقدرها 200 مليون دولار. ولو حصل ذلك، على نحو محتمل، لكان «الفيتو» الاميركي قيد التلويح، والتنفيذ قبل ان يتحوّل تهديداً قاطعاً لا راد له. لن ترتضي الولايات المتحدة مبادرة يابانية من هذا النوع «الممجوج»، وهي التي أنكرتها على نفسها من قبل مرات كثيرة. هل كان بمقدور طوكيو أن تحقّق نجاحاً صعباً في إطلاق مخطوفيها من أسر «الدولة الإسلامية»، لو تمكنت من التفلّت من قبضة واشنطن من أجل أن تتحكّم بمفاوضات من صنعها هي خالية من «الدمغة» الأميركية المسبقة؟ الأغلب نعم، في حال اراد التنظيم الإرهابي ان يبيع الرهينتين في «سوق» دولية للمزاد. من هنا، تمكن ملاحظة ماهية رد الفعل الاعتباطي، على الأرجح، لدى الرأي العام الياباني، الذي فضل أن يرمي الكرة في ملعب الرهينتين، وهما اللذان لا حول لهما ولا قوة. لعلهما كانا، في سرهما يستعجلان الموت بعد ان أيقنا ان الوقت القصير لا يجري لمصلحتهما. مستغرب هذا الموقف الفظ، البارد، المكروه، حتى بمقاييس الثقافة اليابانية، ان تتحوّل الضحية، بين لحظة وأخرى، جلاداً عن سابق تصورّ وتصميم. وكأن الرهينتين كانا يستقصدان طعن اليابان في الظهر، أو نصب شر للأمة لم تعتد على تلافيه لسوء خبرتها في تعطيل الاشتراك.
بدا، في الايام القليلة التي سبقت إعدام الرهينتين، ان الرأي العام العريض من اليابان مضافاً إليه الحكومة، بكامل أعضائها، في واد، والاسيرين في واد آخر. لا تفصل بينهما المسافة الشاسعة بين طوكيو وسوريا. لعلّ البون الجغرافي بين أولئك وهذين كان الأكثر ضآلة والاقل دلالة على ضباب رمادي كثيف كان يخفي وراءه ضرباً من «الحقائق» التي بدت منفّرة لأنها ظلت طي الكتمان. أو بقيت محجوبة عن الأنظار، على الاقل.
استفتاء
يندرج، في هذا الإطار المستهجن، استفتاء أورده موقع «اركايفز» الالكتروني، الاسبوع الماضي، يلمح إلى الحيرة المشتركة بين السلطة السياسية والرأي العام، وتقاعس الاثنين في اختيار المقاربة المناسبة لأزمة الرهينتين. وتناقلته، في الوقت عينه، مواقع أخرى على شبكة الانترنت، مفاده ان حفنة من المواطنين في اليابان أدلوا بآرائهم حيال الفصول المتعاقبة التي شهدتها هذه المأساة، ولا يتجاوز عددهم الـ 150، توافقوا، جميعاً، على القول إن الضحيتين اللتين بطشت بهما «الدولة الاسلامية» لا يستحقان، في الجوهر، تعاطفاً عميقاً من قبل الرأي العام. ومع ذلك، لم يبخل هؤلاء في التعبير عن أسفهم الشديد لمقتل هذين بالطريقة التي تقشعر لها. غير أنهم بدوا ملحيّن في استكثارهم فدية الـ 200 مليون دولار التي لم تمانع الحكومة، ضمناً، في تسديدها للخاطفين مقابل إطلاق سراح الرهينتين.
جاءت هذه الذريعة واهية مستسخفة، على الأرجح، لأن المستفتين قالوا بأن هذا المبلغ الضخم سيجري وضع اليد عليه من جيوب دافعي الضرائب في اليابان. وتشير حصيلة هذه التصورات الأولية، إذا جاز التعبير، ان ثمة هبة شعبية، كما يظهر مباشرة ومن وراء الكواليس، لإنقاذ ما يمكن انقاذه من ماء وجه الحكومة التي بدا رئيسها، شينزو آبي، متعلثماً، مضطرباً وخالي الوفاض بعد سماعه نبأ إعدام الرهينة الثانية. والأغلب انه كان متوقعاً، وفقاً لإحساس بديهي صرف، ألا تنعكس حالة التردّد والخوف وانعدام الثقة بالنفس، التي انتابت الحكومة، على الرأي العام ارتباكاً مماثلاً، لاعتبارات كثيرة، ليس اقلها ان الناس العاديين أكثر استجابة لعواطفهم الجياشة من الرموز المقيدة بشروط اللعبة السياسية، أولاً وأخيراً. ثمة استشراف آخر، في حقيقة الأمر، لطبيعة هذه المسألة المعقدة التي جعلت كذلك ف